المقطع السردي الأول: توتر علاقة قاسم بابنه منير

 

الولد كبر صار أطول مني يدخن معي وأعطيه من علبة سجائري. يدعوني قاسم وحين أقول له قل بابا يبتسم ويقول لي قاسم أحسن هل تخاف أن تضيع منك أبوتك لنا؟ تعترف بأن واجباتك الأبوية قد أديتها نحونا، ولكنك صديق . دعني أتحرر من عقدة الأب ويبتسم. ولكنه يغضب ويشتمني أحياناً، وأنا أتحمل، وأقول ما أروع هذه الحرارة في زمن المهادنة والانصياع والتنكر لتاريخ الدم. أقول لنفسي هذه ليست جسارة. هذا أنا الذي لم أعد أستطيع أن أكونه. وقاسم لن يكون سوى ما كان وما هو كائن ، فليكن منير ما يريد. رقية تبكي وتقول تخاف عليه يتأخر في بعض الليالي ولا تنام حتى يعود. يسافر ولا نطمئن حتى يرجع . يكاشفني ويقول لا بد من تقديم طلب الإستقالة. أبي سجان؟ أقول له وماذا سنأكل ، وأين سنقيم ؟ يضحك ويتحدث عن تاريخ السجون . الباستيل . الحبس القديم في مكناسة الزيتون. المعتقلات السرية. ثم يتحدث عما قرأه في كتاب الأقدام العارية. الحبس القديم أروع نموذج يقول الظلام والتجويع وقطرات الماء التي تتساقط من السقف. لا أحد يرى الأخر سجن تحت الأرض، وأعمدة الحجارة، وعظام الموتى ورائحة الجيف. سجن اللاخـروج واللاعودة إلى رؤية الضوء والسجون الأخرى، العمارات المقلوبة تحت الأرض، بطوابقها وممراتها المظلمة. أهذا كل شيء؟ يضحك. يحترق ويريد أن يحرق كل شيء. يحرقني بشتائمه ويضحك ثم يدخل في هذيانات سياسية عن المرحلة ولا يكف عن الكلام وأنا تعبت.

-          اخرج واقرأ اللافتة . أية لافتة ؟

-          التي على الباب . أي باب؟

-          باب السجن .

-          وماذا فيها؟

-          السجن المدني .

-          وما في ذلك؟

يضحك منير. يلوح بيديه ويشير لي بسبابته :

-          أنت ؟

أقول له :

-          أنا مالي؟ قل .

-          لا تعرف ؟

يضحك بصوت عال وهو ينظر إلي. يحس أنه يجرحني. ثم تتحول الضحكات الساخرة إلى إدانة مكشوفة :

-          تسكن بعائلتك في السجن ننام ونأكل في السجن . أنت سجان .

أقول له :

-          هذه سكنى للموظفين .

-          لا تقل الموظفين. قل.

-          لماذا؟

-          أنا قلت لك . هذه وظيفتي .

-          يجب أن تستقيل .

-          وماذا أعمل ؟ كيف أعيلكم؟ ؟ اشتغلت  سبع عشرة سنة ولم أوفر أي شيء.

-          أنا ونعيمة ستعمل. سنتخرج ونعمل .

-          وأنا وأمك لا نحب أن نأكل من عرفكما ستتزوجان وتعيشان حياة أخرى .

-          نتزوج؟ من يتزوج أو يتنفس الهواء في هذه المزبلة؟

 يدخن سيجارة ويشعل أخرى. عيناه تتقدان الولد صارت له نظرات مرعبة . عيناه تخرجان من مدن نارية وجبال وفجوات للصخور. تصير عيناه قوة خارقة لا تقهر. وهذه الدار كيف تخرج منها وإلى أين نذهب ؟ ثلاث غرف صغيرة وحمام ومطبخ، وممشى النشر الغسيل. على بعد خطوات يوجد الباب الخلفي للمكتب، وقبالته دار با إبراهيم . في الليل تتغير الأشياء. تتفتح بعض الليالي عن نشوة غامرة وفرح طفولي أراه في عيني نعيمة وأحمد، والفرح يتكدر، وتضيع بهجة الاستمتاع بالطعام اللذيذ الذي أعدته رقية. يتكدسون في كل مكان على الأرض، فوق الفرش، فوق مائدة الطعام بعد أن تنظفها نعيمة بعد أن اجتمعوا حول المائدة وأكلوا بشراهة من طبيخ لحم الغنم يضحكون يتحدثون عن الرغبات والمرأة، وعن كل شيء تمتليء الغرف بدخان السجائر. أحمد يضحك . نعيمة تدخل حمى الكلمات. يصخبون ويخططون بدهشة لخرائط جديدة يتشكل منها العالم. 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال