نص تشعبي رقم (3): القارئة المقاومة (رواية رجوع إلى الطفولة)



القارئة المقاومة.

     سكنا في بني ملال  بيت الحاكم الفرنسي في مشارف المدينة. كانت له شرفات فرنسية تظللها عرائش مزهرة. ومرجتان كبيرتان. وأزهار ومياه جارية. وكان البيت في حالة موسم، أهل أبي وأهل أمي وزوار من الدار البيضاء والرباط، وطبخ بالليل والنهار.
     وصل موسم المدرسة، فذهبت بنا أمي الى بيت الحاج عثمان جورجيو، مدير مدارس محمد الخامس، ليسجلنا بتوصية من أبي في مدرسة محمد جسوس، لأنها تدرس اللغة العربية والفرنسية على السواء.
ودخلنا المدرسة وقسمها الداخلي. كان أساتذة الفرنسية جزائريين، وأساتذة العربية رباطين أصليين، وكان في القسم الداخلي بنات مزارعين وتجار سوسيين يعيشون في فرنسا. مرة التحقت بنا بنات مدير سيرك عمار، مدة جولة السيرك في المغرب، فكن يتسلقن الأشجار ويقمن بألعاب بهلوانية مدهشة، كانت مدرسة مختلطة، أغلب تلاميذها
رباطيون والداخليون من جهات مختلفة.
     من أول العام ظهر ميلي للغة العربية وتوفقي فيها، ولا أعرف أيهما نتج عن الأخر، المهم أنهما كانا مرتبطين، وأنني بدأت أشغل وقتي ونفسي  بالقراءة بسبب انفصالي عن أمي. كان الأستاذ العوفير قد أقام لنا مكتبة عربية في خزانة في أخر الصف، ساهم فيها كل واحد منا بكتاب أوكتابين، وكنا نستعير الكتاب مقابل عشرين فرنكا، تذهب الى صندوق لشراء المزيد من الكتب، وأعتقد أنني كنت أكثر من استفادة من تلك الخزانة. وأصبحت راوية القسم الداخلي، عندما لا يكون الجو صحوا أيام الأحد، كانت الحارسة وهي جزائرية اسمها بدرة، تدخلنا قسم المراجعة، لا لنحفظ دروسنا، ولكن لأروي القصص. كانت تجلسني في مكتبها، وتجلس هي في نهاية الصف وتصغي. كانت عربيتها شأن معظم الجزائرين في ذلك الوقت، ضعيفة جدا، ثم تقول لي: "سوف تكونين معلمة"
ولكن رجلا من أسرتي كان يراني أصغي بشغف لأحاديث جدتي، وأكثر عليها الأسئلة، قال لي، "هل ستكونين صحافية؟"
لم يكن يهمني ما سوف أكونه، لم يكن يهمني إلا أن أجد كتابا لم أقرأه بعد، كانت البنات في القسم الداخلي يطلبن مني المزيد من القصص، وكن يتحلقن حولي في الساحة، فأبدأ الحكي وتبدأ الحلقة تتكتل وتتماسك، واستهلكت خزانة الصف فأعطاني.
أحد أصدقائي والدي ، إعجابا منه برسائلي لهذا الأخير، مجلدا مذهلا بحجم ألف ليلة وليلة، يضم مجموعة أعداد مجلة سندباد، فيه قصص وصور من النوع الذي يحسن الناشر اللبناني صنعه، وعندما غادرت تلك المدرسة، كنت قد قرأته وأعدت قراءته مرارا وتكرارا.
قبل ذلك جاء رمضان وصمت لأول مرة، لكن كان على أن أدخل الى غرفة الطعام في الفطور والغذاء، لأن المشرفة كانت تمنع علينا الصيام، كانت جزائرية ضارية ومدكوكة كأنها حارس سجن، لم تلبث أن اكتشفت أنني لا اكل، فجائتني وقالت:
ـ كلي.
ـ قلت:
ـ صائمة.
قالت : كيف تصومين إذا كنت أنا التي في سن أمك لا أصوم؟
ـ لقد بلغت هذا العام بشكل حاسم.
فقالت باستهزاء:
أين بلغت؟ كلي كلي وإلا سجنتك، أي بلوغ وأي بطيخ؟ أي صيام لطفلة في حالة نمو؟
قلت في نفسي: " منطق نصراني. الله أعلم، لو كان الصيام مضرا بطفلة في حالة نمو لما أوجبه حال البلوغ، أبوها جزائري وأمها جزائرية وهي تفكر بعقل نصراني" ولكنني كنت مصممة على المقاومة حتى النهاية. ألم يكن حكم النصارى قد ولى؟
ليلى أبو زيد، رجوع إلى الطفولة ، شركة المدارس للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط18 /2016 صفحة 132و133.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال