النص تشعبي رقم (2): المكان الموبوء (من رواية المباءة)


 المكان الموبوء

 

قاسم يمسك الإزميل بيده ليحفر الحروف وهو يتذكر الموتى الذين لم يعرفهم ولكنه عرفهم من خلال الأحياء، ثم صار يعرف قبورهم، إن كانت في مقبرة القبب، وأما إن كانت في زوايا الشرفاء ومدافنهم الخاصة فهو  لا يعرفها، ولا يرغب في ذلك. يخطو  وسط القبور يجد قبرا محفورا في انتظار من سيدفن فيه. يقف أمامه، يرى نفسه ميتا في ذلك القبر، يرى جنازته تخرج من ضريح سيدي علي بوغالب وتخرج من باب الفتوح لتدخل المقبرة. جنازة تسير لوحدها، فالنعش مرفوع لا يرى من يرفعه، ولا أحد يسير وراءه أو أمامه، ما عدا شعب القطط، وقد صار  بدون زعيم، والنعش مرفوع لوحده في الفراغ  ذاهب بنفسه نحو المقبرة والقطط وحدها تسير  وراءه.
بعد حين يحضر التهامي مقدم الضريح وهو يقوم بدفن قاسم، وقاسم يراه فيطلب منه أن يبتعد عنه، فهو نجس، ولا يليق برجل نجس أن يقوم بدفن ميت، ثم يظهر با إبراهيم وهو يدفن قاسم، وقاسم يستسلم للدفن ولا يتمرد كما كان قد تمرد على التهامي وهو يدفنه. عندما يستقر قاسم في قبره يستريح، ويحيي با إبراهيم تحية وداع، ويوصيه بأن يزور قبره كل صباح جمعة، وأن يدفع للمقرئين أجرا حتى يقرأوا عليه القرآن، وأن يدفع لبائع الماء حتى يصب قربةَ الرحمة على قبره، وبا إبراهيم يعده بأن يفعل ذلك ما دام على قيد الحياة.
يجوب قاسم في دروب فاس، طولا وعرضا، يمر بالرصيف والقطانين والعطارين..كان خائفا من أن يصيبه مرض فاس. فاس مريضة، فقد أصابها مرض كالوباء، والمدينة كلها أصبحت مباءة، فما عاد يمكن لأحد من سكان فاس أن يحتمي داخلها من الوباء.
قالوا شربه الناس في الماء، وقالوا جاء مع الهواء، وقالوا هو عقاب من الرحمن، وقالوا هو سخط من الملك على فاس وأهلها، الأطباء لم يقولوا شيئا فقد كانوا هم أنفسهم مصابين بالوباء. المتاجر  أغلقت أبوابها، والمدينة لم يغلق أبوابها الحراس ومع ذلك ما عاد أحد يدخل منها أو يخرج، وقالوا هو الوباء... فاتسع الأمر  فشمل هذا وذاك، وهذه وتلك، وأصبح الوباء باديا للعيان يراه الجار في وجه جاره ويراه الحبيب في وجه حبيبه...تشوهت الوجوه، تضرعوا، بكوا، قالوا نعطي الغالي والنفيس لتعود إلينا وجوهنا كما كانت. تذكر با إبراهيم وقال ليته يكون قد نجا من الإصابة بالوباء، أما التهامي مقدم الضريح فلا شك أن وجهه مصاب، كما عقله مصاب، وقلبه مصاب، وكل شيء فيه مصاب.
بعد ذلك التجول عاد قاسم من المقبرة إلى الضريح، فصعد الأدراج الثلاث، وفي هذه المرة نزع حذاءه عن قدميه ثم وضعه تحت إبطه ودخل الباب. تجمعت حوله القطط  في الساحة، وما كان له من طعام يقدمه إليها. وقف وسطها غاضبا يضربها بقدمه وقال لها أليس هناك سوق للعمل؟ من لا يعمل لا يأكل...لم يصادف نساء زائرات. رغب في أن يقابل التهامي ليرى وجهه كيف صار ولكنه كان مختفيا كما اختفى كل سكان فاس .
ضحك قاسم، وقال بعد حين سوف يكتشف الرجال الحل، فيظهرون ملثمين لكي لا ينظر أحد إلى وجهه في وجوههم، وإلى عاهته في عاهتهم، فهو الوباء. معلمو المدارس هل ينظرون إلى وجوه تلاميذهم، أم أن التلاميذ سيخفون وجوههم وسيرغبون في أن يروا وجه المعلم؟
هذا ليس شأني، فأنا قاسم، ولا شأن لي إلا بالنسر والثعبان، وكلاهما مرسوم على جسدي، وأحدهما يحارب الآخر. الثعبان يستعد لأن يلدغ النسر، والنسر يشحذ منقاره ليقطع الثعبان قطعا قبل أن يطير. 

محمد عز الدين التازي، المباءة ، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط 1، 1988، صص: 122-132 (بتصرف)


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال